مفهوم التماسك النصي في لسانيات النص ودوره في بناء النصوص
إنّ مصطلح التماسك النصي مفهومٌ مهمٌّ جدّاً في لسانيات النص؛ إذ إنّ وجوده هو الفيصل بين النص واللانص حسب رأي الباحثيْنِ: "هاليداي" و"رقية حسن"، «حيث اعتبرا روابط التماسك بين الجمل هي المصدر الوحيد للنصية» ، وهذه النصية لا تتحقق لأي مقطعٍ لغوي إلا إذا توفرت فيه خصائص تؤهله لأن يكونَ كُلّاً موحّداً.
وقبل أن نتعرّف على تعريف التماسك النصي اصطلاحاً لابد أن نعرّجَ على مفهومه اللغوي:
التماسك لغة:
يأتي التماسك في اللغة مقابلاً للتفكك، وهو بذلك يعني الترابط والالتحام، فقد ورد في أساس البلاغة: «أمسك الحبل وغيره، وأمسك بالشيء ومسك وتمسّك واستمسك وامتسك. و﴿ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ﴾ ، وأمسكتُ عليه ماله: حبسته، وأمسك عن الأمر: كفَّ عنه، وأمسكتُ واستمسكتُ وتماسكتُ أن أقعَ عن الدّابةِ وغيرها. وغشيني أمرٌ مقلقٌ فتماسكتُ. وفلانٌ يتفكّكُ ولا يتماسكُ، وما تماسكَ أن قال ذلك وما تمالك، وهذا حائطٌ لا يتماسك ولا يتمالك. وحفر في مسكة من الأرضِ: في صلابةٍ.»
وفي (تاج العروس): «وَفِي صِفَتِه ﷺ بادِنٌ مُتَماسِكٌ أَرادَ أَنّه مَعَ بدانَتِه مُتَماسِكُ اللَّحْم لَيْسَ مُستَرخِيَه وَلَا مُنْفَضِجَه، أَي أَنَّه مُعْتَدِلُ الخَلْقِ، كأنَّ أعْضاءهُ يمْسِكُ بعضُها بَعْضًا»
وفي (لسان العرب): «أمسكتُ بالشيء وتمسّكتُ به واستمسكتُ كله بمعنى اعتصمتُ وكذلك تمسّكْتُ به تمسيكا...المسيكُ من الأساقي التي تحبسُ الماء فلا ينضح، وأرضٌ مسيكةٌ لا تُنَشِّفُ الماءَ لصلابتها وأرضٌ مساكٌ أيضاً» .
ومن خلال النتائج التي تحصّلنا عليها نجد أنَّ كلمة التماسك تحمل المعاني الآتية: الصلابة، المتانة، ترابط الأجزاء بعضها ببعض.
التماسك اِصطلاحاً
هو: «العلاقات أو الأدوات الشكلية والدلالية التي تسهم في الربط بين عناصر النّصِّ الداخلية وبين النّصِّ والبيئة المحيطة» ، ويهدف إلى تحديد الطريقة التي ينسجمُ بها النص ويكشف من خلاله عن الأبنية اللغوية وكيفية تماسكها وتجاورها.
ثم إنَّ الباحثيْنِ "هاليداي" و"رقية حسن" قد حصرا مفهوم التماسك النصي في الاتساق والانسجام فقط، واللذين هما معيارانِ من سبعة معايير تحققه، وقد يكونُ حصرهما هذا صحيحاً إذا كانتِ النصوص المدروسةُ افتراضيةً لا اتصالية واقعية.
في حين أنّ الباحثيْنِ "ديبوغراند" و"دريسلر" اعتبرا التماسك النصي نتيجةً لتظافر عدة معايير نصية وليس فقط الاتساق والانسجام بالمفهوم الشكلي والدلالي. ولتوضيح ذلك نضربُ هذا المثال وهو عبارةٌ عن حوارٍ قصيرٍ جداً بين صديقيْنِ في غرفة ليلاً:
- الصديق 1: هل ترغبُ بفنجانٍ من القهوة؟
- الصديق 2: إنَّها تمنعني من النوم.
- المعنى الأول: لا، لا اريد القهوة، إنَّها تمنعني من النوم.
- المعنى الثاني: نعم، أريد القهوة، فالفيلم طويلٌ... إنَّها تمنعني من النوم.
وكلا المعنيين مع سؤال الصديق 1 نصّان افتراضيانِ، ونحن لا ندري أيهما وقع حقيقة في ذلك الموقف الاتصالي، والحلُّ كي نختزلَ هذه الافتراضات إلى نصٍّ واحدٍ متحققٍ هو معرفة قصد الصديق 2، فعند إدخال معيار القصدية نكتشف أيَّ النصينِ هو الواقعي المـُنتج في الموقف الاتصالي.
إذن، لا بدَّ أن تتظافرَ المعايير السبعة حتى يتحقَّقَ التماسكُ النّصِّيُ. وفي هذا الصدد يلِحُّ "محمد خطابي" على أنّه «لا يوجدُ نصٌّ منسجِمٌ في ذاته ونصٌّ غير منسجمٍ في ذاته باستقلال عن المتلقي، بل إنَّ المتلقي هو الذي يحكُمُ على النّصِّ بأنّهُ منسجمٌ وعلى آخر بأنّهُ غير منسجم» ، وهذا الرأي يؤكّدُ دور معياريْ القصدية والمقبولية وبقية المعايير الأخرى في تماسك النصوص، وأنّ الاتساق والانسجام غير كَافِيَيْنِ لوحدِهما لتحقيق ذلك.
النَّصِّيَةُ (Textuality)
مفهوم النصية أو النّصّانية من المفاهيم التي لاقتْ ترحيبًا واسعًا من قبل علماء لسانيات النص، ويعود الفضل في نشوء هذا المصطلح إلى "روبرت ديبوغراند" و " ولفجانج درسلر" في كتابهما الأول: (مقدمة في علم النص) الذي نشر عام 1967. وعرف المفهوم نضجه التام والحقيقي في كتاب "ديبوغراند" (النص والخطاب والإجراء) وذلك من خلال المعايير التي وضعها، فإن توفّرَتْ متواليةٌ من الجمل على تلك المعاييرِ فإنّها تصبح نصّاً ويتحقق فيها ما يُسَمَّى بـــالنصية، و «تمثِّلُ النّصية قواعد صياغة النص، وقد استنبط "ديبوجراند" و"دريسلر" سبعة معايير يجب توفرها في كل نص، وإذا كان أحد هذه المعايير غير محقق فإن النّص يُعَدُّ غير اِتصالي...» ، وتجدر الإشارة هنا إلى أَنَّ هذه المعاييرَ ليست قوانين صارمة يجب على أيّ نصٍّ أن يحتوِيَها « فقد اقترح "ديبوجراند" بعض المبادئ العامة التي تصلح أساسا للنصانية دون أن تكتسب هذه المبادئ صفة القوانين الصارمة، أي هي مجرد مؤشرات مهمة في إنشاء النصوص» ، وهذه المعايير هي: القصدية، المقبولية، الإعلامية، المقامية، التّناص، الاتساق، والانسجام.
المعايير النصية
القصدية (Intentionality)
وهي «تعني رغبة مؤلّف النّص أن يقدّم نصّاً مسبوكًا محبوكاً (متسقاً منسجماً)، وفي معنى أوسع تشيرُ إلى جميع الطرق التي يتخذها المؤلّفُ لاستغلال نصّه من أجل تحقيق مقاصده...» .
وعند ملاحظة هذا التعريف نجد أنّ ربْطَ القصدية بالاتساق والانسجام له غاية نصية، في حين أنّ ربطها بالمتلقي له غاية نفعية، أي أنّ للقصدية أبعادًا تداولية. ولذلك نجد الكثير من الباحثين يربطون بين القصدية ونظرية أفعال الكلام من جهة، وبينها وبين نظرية الاستلزام الحواري من جهة أخرى، وغيرها من نظريات التداولية.
المقبولية (Acceptability)
هي «...رغبةٌ نشطةٌ للمشاركة في الخطاب» ، ومن خلال عمل القارئ حين يقرأ النص فإنه يصنعُ تماسكاً من نوعٍ مختلفٍ لما يقرّره علم القواعد فهو عندما يستنتجُ فهو يقومُ بذلك لعمل سياق من أجل تفسير المعلومات الجديدة لكي يصنع التماسك والاستمرارية في النص، أو ما سماه "هاليداي" و"رقية حسن" بالتماسك النصي، والذي أطلق عليه ديبوغراند "النصية".
وفي هذا الصدد يقول "أحمد حسام فرج": «وإذا كانت هناك رغبةٌ لصنع التماسك من قبل القارئ، فإنّ هذه الرغبة نتيجةٌ للمقبولية، أي أنّها متولدة عن قبول النّص بالفعل. فخلال قراءة النّص هناك رغبات متزايدةٌ تدفعُ لاستكمال قراءته، فيكون النص منجزاً للرغبات. وكل نص بدوره به فجوات تثير القارئ وتدفعه لاستكمال القراءة فيه.» ، ولذلك نجد أنّ معيار المقبولية له علاقاتٌ مع نظرية القراءة والتلقي.
إنّ النص يُبْعَثُ من جديد بفعل القراءة، والمتلقي حين يقرأُ فإنّهُ «بذلك يعيدُ بناء النص طبقاً لِتَصَوُّرِهِ، فالنّصُّ –إذن-كائنٌ حيٌّ في حالة سكونٍ يُبْعَثُ بالقراءةِ فيَحْيَا مِنْ جديدٍ وبأشكالٍ جديدةٍ، ويصبحُ القارئُ مؤلّفاً كما كان المؤلّفُ قارئاً» .
الإعلامية (Informativity)
ترجمها بعضُ الباحثين إلى الإخبارية، وبعضهم إلى المعلوماتية، وعرفها "ديبوغراند" بأنها: «العاملُ المؤثر بعدم الجزم uncertainly في الحكم على الوقائع النصية، أو الوقائع في عالم نصي World textual في مقابلة البدائل الممكنة، فالإعلامية تكون عالية الدرجة عند كثرة البدائل، وعند الاختيار الفعلي لبديل خارج الاحتمال، ومع ذلك نجد لكل نص إعلامية صغرى على الأقل تقوم وقائعها في مقابل عدم التوقع» ، و«حريٌّ بمصطلح الإعلامية أن يدلَّ على ناحية الجدة والتنوع الذي توصفُ به المعلومات التي تشكل محتوى الاتصال في نصٍّ ما» ، ويعلّق "أحمد حسام فرج" على التعريف السابق بأنّ "ديبوغراند" يحصرُ الإعلاميةَ «في مجال ضيق» ، ولذلك، فهو يقترحُ مستوياتٍ ثلاث لها وهي :
- الإعلامية بالمعنى العام: وهي تدلّ على أنّ أيَّ نصٍّ يجبُ أن يقدّمَ خبراً ما، فالنصوصُ كلها تشتركُ في هذه الوظيفة.
- الإعلامية بمعنى الجِدّة وعدم التوقع: وتدلُّ على ما يجدهُ المتلقي في النص من جدة وإبداعٍ ومخالفة للواقع، وذلك على مستوى صياغة النص أو على مستوى مضمونه، ويحدث هذا في النصوص الأدبية.
- الإعلامية بمعنى الدعاية: إيجاباً أو سلباً لشخصٍ ما أو لفكرةٍ ما أو لمذهبٍ ما.
- كفاءة إعلامية منخفضة الدرجة: المحتوى المحتمل على هيئة أو صياغة محتملة، ويكونُ النّص سهل الصياغة، وبالتالي يكون غير إعلامي.
- كفاءة إعلامية متوسطة الدرجة: المحتوى غير محتمل في هيئة محتملة، أو المحتوى المحتمل في هيئة غير محتملة، ومثل هذه النصوص يتسمُ بالتحدّي ولكنه غير مثير للجدل، وهي غالباً النصوص الأدبية.
- كفاءة إعلامية مرتفعة الدرجة: المحتوى غير محتمل في هيئة غير محتملة، وهي النصوص صعبة الصياغة والمثيرة للجدل الحاد.
وترتبطُ هذه الكفاءات الإعلامية للنصوص بمعرفتنا عن العالم world knowldge فإن كان النّص يؤكدُّ العلاقات التي سبق العلم بأنها محددة، فإننا عندئذ أمام كفاءة إعلامية منخفضة، وترتفعُ درجات الكفاءة الإعلامية كلما خالف النصُّ الطابع الأنموذجي، وكلما كانت درجة الإعلامية مرتفعة كلما نتج ما يسمى بــــــالمفارقة القابلة للحل عن طريق مقارنة المعرفة العامة عن العالم والنص ولذلك يمكننا أن نقول إنّ الاعتياد كلما زاد نقصت الإعلامية والعكس صحيح .
المقامية (Situationality)
التَّناص (Intertextuality)
الاتِّساق (Cohesion)
يتحقق هذا المعيار عند "ديبوغراند" بواسطة ما أسماهُ بـــالترابط الرصفي القائم على النحو في بنيته السطحية حيث المساحةُ للجمل والتراكيب والتكرار والإحالات والحذف والربط، ويحدد "سعد مصلوح" الاتساق بأنه يختصُّ «بالوسائل التي تتحقق بها خاصية الاستمرارية في ظاهر النص surface text، ونعني به: الأحداث اللغوية التي ننطقُ أو نسمعها في تعاقبها الزمني، والتي نخُطُّها أو نراها بما هي كمٌّ متّصلٌ على صفحة الورق، وهذه الأحداث أو المكونات ينتظمُ بعضها مع بعضٍ تبعاً للمباني النحوية، ولكنها لا تشكّلُ نصّاً إلا إذا تحقق لها من وسائل السبك(الاتساق) ما يجعلُ النّصَّ محتفظاً بكينونته واستمراريته، ويجمعُ هذه الوسائل مصطلحٌ عامٌّ هو الاعتماد النحوي.»
- الاتساق النحوي: يتحقق من خلال الوسائل اللغوية التي تربطُ عناصر النص، وهذه الوسائل هي: الإحالة بنوعيها القبلية والبعدية، الاستبدال، الحذف، والوصل.
- الاتساق المعجمي: وله وسيلتان هما: التكرار، والتضام وهو: توارد زوج من الكلمات بالفعل أو بالقوة نظراً لارتباطهما بحكم هذه العلاقة أو تلك مثل: ولد –بنت، ليل-نهار، صباح-مساء، أب-أم...إلخ، والتضام قد يكون على هيئة تضاد (طباق – مقابلة)، أو على شكل سلسلة مرتبة (سبت، أحد، اثنين...) أو علاقة الجزء بالكل أو الجزء بالجزء مثل: (بيت، نافذة، باب)، أو الاِندراج في قسم عام مثل: (طاولة، كرسي، طبق، شوكة...إلخ
- الاتساق الصوتي: لقد عدّ "ديبوغراند" و"دريسلر" التنغيم وسيلةً من وسائل تحقيق الاتساق، ولم يتعدّاهُ إلى ظواهر أخرى ربما لأنّها غير موجودة في لغاتهما، لكن العربية تزخرُ بهذا النوع من الاتساق الصوتي مثل: السجع والجناس والترصيع والوزن والقافية والروي.
الانسجام (Coherence)
إنَّ حجر أساسِ هذا المعيار هو الترابط المفهومي أو الفكري الذي تحقّقُهُ البُنيَةُ العميقةُ للخطاب، ويحدِّدُ "سعد مصلوح" الِانسِجَامَ بِقَوْلِهِ: «وأمّا الحبك (الانسجام) فيختصُّ بالاستمرارية الـمُتَحَقِّقَةِ في عالم النص Text world ونعني بها الاستمرارية الدلالية التي تتجلّى في منظومة من المفاهيم Concepts والعلاقات Relations الرابطة بين هذه المفاهيم» ،والمفهوم: هو محتوى معرفي يمكنُ استرجاعهُ أو اِستثارتُهُ بِقَدْرٍ مَا من الوِحدة والِانتظام في الذّهن، أمّا العلاقة: فهي الرّابطة القائمة بين مفهوميْنِ أو أكثر، ومن أمثلة ذلك العلاقة السّببيّة في قولنا: (( سقط أحمدُ، فتحطّمَ رأسهُ )) فالحدث (السّقوط) تسبَّبَ بحدثٍ آخر هُوَ (التّحَطُّم). وأمّا القضيةُ: فهي مفاهيمٌ معيّنةٌ مرتبطةٌ بعلاقةٍ ما.
- الاستقصاء: ويُقصَدُ به تصعيدُ المعنى والوصول به إلى غايته، وهو الأمرُ الذي قد يقتربُ من المبالغة، ومن أمثلته الاسترسالُ في المدْحِ، وقد سمّها "اِبن الرشيق" بِـــــالتنغيم.
- التكرار: وهي الإعادةُ المباشرةُ للقضايا أو هي توكيدٌ للمعنى وليس للفظ.
- الترادف: أو ما يندرِجُ في مصطلح: إعادة الصياغة، وتهدِفُ هذه العلاقةُ إلى خلْقِ شكْلٍ من أشكال الكليات الدلالية تجمعُ كلَّ ما هو متشابهٌ من القضايا في إطارٍ واحدٍ.
- السبب بالنتيجة: لعلها الأشهرُ والأكثرُ استخداماً في عوالم النصوص، وهي التي يكونُ فيها أحد المفهوميْنِ سبباً للآخرِ أو عِلّةً في وجودهِ أو حدوثه أو تغيّره.
- التفصيل والإجمال: وهو أن تكونَ احدى القضايا تفصيلاً لقضيةٍ أخرى وشرْحاً لها.